[size=21]ذا أقبل الليل بظلامه وسواده أقبل عليه الصالحون يستنبطون من داجية حلكته أنوار الصباح، وينسجون من سواده بُرُدالضياء الوضَّاح،
ويصنعون من وحشته الأنس والانشراح، وينطقون صمته المهيب بألسنةفصاح.
واعجباه … كيف أخرجوا النور من قلب الظلمة، وصاغوا حلل الفجر من خيوطا لليل؟!
واعجباه … كيف حولوا الوحشة إلى أنس، والانقطاع إلى صلة؟
يا ترى .. أيَّ سر كشفوه في الليل حتى أحبوه وعشقوه وفضلوا ظلمته على وضح النهار؟
حتى إن سليمان الداراني ليقول: لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
ويقول علي بن بكار: منذ أربعين سنةما أحزنني إلا طلوع الفجر.
ويقول السري: رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل .. ويقول الأوزاعي: كان السلف إذا انصدع الفجر أو قبله بشيء قليل كأن على رؤوسهم الطيرمقبلين على أنفسهم حتى لو أن حميماً لأحدهم قد غاب عنه حيناً ثم قدم ما التفت إليه.
ترى أي أسرار كانت لهم في الليل؟
أي نجاوى كانت تحملهم على بساطه إلى آفاق رحبة ينقطعون فيها عن دنيا الناس ليعيشوا مع رب الناس؟
نعم هذه هي أسرار الليل التي هدوا إليها …
إنها صلاة المصلين ودموع الباكين ومناجاةالخاشعين.
إنها زفرات المذنبين وآهات التائبين وأنين المستغفرين.
إنها دعاء المخبتين ومناجاة المحبين ووجدالمشتاقين..
بكى أبو سليمان يوماً فقال له ابنأبي الحواري ما يبكيك؟
قال: ويحك يا أحمد كيف لا أبكي،
وقد بلغني أنه إذا جن الليل
وهدأت العيون
وخلا كل خليل بخليله
واستنارت قلوب العارفين
وارتفعت هممهم إلى ذي العرش
وافترش أهل المحبة أقدامهم بين يدي مليكهم في مناجاته
ورددوا كلامه بأصوات محزونة
جرت دموعهم على خدودهم
وتقطرت في محاريبهم خوفاً واشتياقاً،
فأشرف عليه الجليل جل جلاله فنظرإليهم فأمدهم مهابة وسروراً،
وقال: يا جبريل ناد فيهم ما هذا البكاءالذي أسمع؟
وما هذا التضرع الذي أرى منكم؟
هل سمعتم أو أخبركم عني أحد أن حبيباً يعذب أحباءه؟
أو ما علمتم أني كريم؟ فكيف لا أرضى؟ أيشبه كرمي أن أردقوماً قصدوني؟
أم كيف أذل قوماً تعززوا بي؟
أم كيف أحجب غداً أقواماًآثروني على جميع خلقي وعلى أنفسهم وتنعموا بذكري؟
فبي حلفت لأبعدن الوحشة عن قلوبهم ولأكونن أنيسهم إلى أن يلقوني فإذا قدموا علي يوم القيامة فإن أول هديتي إليهم
أن أكشف لهم عن وجهي حتى ينظروا إلي وأنظر إليهم،
ثم لهم عندي ما لا يعلمه غيري!!
ثم قال الداراني: يا أحمد إن فاتني ما ذكرت لك فيحق لي أن أبكي دماً بعدالدموع.
فياحسنهم والليل قد أقبل بحنادس ظلمته وهدأت عنهمأصوات خليقته وقدموا إلى سيدهم الذي له يأملون،
فلو رأيت أيها البطال أحدهم وقد قامإلى صلاته وقراءته فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه
أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ..
فانخلع قلبه وذهل عقله!قدهدّ أجسامهم الوعيد
وغير ألوانهم السهر الشديد
يتلذذون بكلام الرحمن،
ينوحون به على أنفسهم نوح الحمام.
يرون أن من أعظم نعم محبوبهم عليهم أن أقامهم وأنام غيرهم
واستزارهم وطرد غيرهم وأهلهم وحرم غيرهم.
قد يئسوا من الدنيا ويئست منهم،
فلو رأيتهم لرأيت رجالاًإذا جنهم الليل مزقوه بسكاكين السهر،
إن القوم أعطوا المجهود من أنفسهم فلم ادبرت المفاصل من الركوع وقرحت الجباه من السجود
وتغيرت الألوان من السهر
ضجوا إلى الله بالاستغاثة
فهم أحلاف اجتهاد لا يسكنون إلى غير الرحمن.
تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاًوَطَمَعاً [السجدة:16]
بكى الباكـون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لايسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم تحن متى عليهايسجدونا
فلما علم الله صدق همتهم وصفاء نيتهم جعل لهم نوراً يمشون به في الناس،
قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟قال: لأنهم خلوا بنور الرحمن فألبسهم نوراً من نوره
[/size]